في هذه الأيام ، و مع اقتراب الذكرى السنوية التاسعة و الثمانين لتوحيد مملكتنا الحبيبة الشقيقة ، “المملكة العربية السعودية” ، صاحبة الدستور القرآني ، و المنهج المحمّدي ، ذات الراية الخضراء ، و التي تترسخ فيها كلمة الشهادة فوق سيف الحق ، وليدة التوحيد و السنّة ، و رضيعة الكتاب و الحكمة ، بعد طول مخاض و عسر ولادة ، نتيجة أمراض و أسقام خلّفتها جراثيم التخبطات الرجعية ، و أورام الانتهاكات العثمانية ، دولة أبت إلّا أن تنتفض لتنفض غبار التاريخ عن أرضها ، و تزيل أوساخ التجهيل عن دينها ، و تعلنها بعد مساحات شاسعة من الزمن ، قيام دولة تشق طريقها للسير على نهج السلف الصالح من القرون الأولى ، دولة تشبه إلى حد ما دولة الخلافة في هذه الحقبة القاحلة إن صحّ التعبير ، و ذلك بالمعنى الديني العقائدي على الأقل ، نحتسبها و الله حسيبها ، و لا نزكي على الله أحدا ، نعم ، في هذه الأيام ، اعترت أناملي أمواج من الرغبة في الكتابة ، و التي طالما ألحّت عليّ مرارا ، لأكتب في شخصية تاريخية من شخصيات هذه الدولة الكبيرة مساحة و تاريخا ، شخصية أكنّ لها كل الاعتزاز و التقدير ، إنها شخصية ملك من ملوك هذه الدولة ، و هذه أول مرة أكتب فيها عن شخصية قيادية ، فقد اعتادت أناملي على توجهات مختلفة ، لطالما كانت بعيدة عن الكتابة في السير و الشخصيات ، و خاصة في الملوك و الحكام ، و لكن في هذه الشخصية ، صدق كلمات ، و صحة عقيدة ، لطالما جذبتني للبحث في أسرارها و أفكارها ، و وددت لقاءها و معايشتها ، و لكنها سبقتني بقرنٍ من الزمان ، ليصعب عليّ الالتقاء بها إلّا من خلال هذه السطور الشحيحة ، و التي طالما عوّدتنا عدم استيفاء حق الحديث ، و عدم ارتقاء حقيقة الوصف ، إنها شخصية الملك الموحّد ، مؤسس الدولة السعودية الحديثة ، فاتح الجزيرة العربية من بعد جاهلية أخرى ، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، رحمه الله.
و قد يقاطعني البعض و ينكر عليّ ما أصبو إليه في الكتابة و النشر ، و خاصة من أعداء هذه الدولة المباركة ، من بني عثمان و بني طهران و بني إخوان ، الأعداء القدامى و الجدد لهذه الدولة الشريفة و حكامها و بالطبع “مؤسسها” ، فأقول لهم : يا من تدّعون حصريّة امتلاك الحقيقة ، و التفرد في إصدار الأحكام ، و التي يعتبرها الكثير – و أنا منهم – قمامة أفكار ، و أشلاء خواطر ، إن قراءتي للتاريخ قراءة ناضجة ، ككل إنسان سويٍّ يحسب نفسه من أهل السنّة و الجماعة ، يحب الله و رسوله – صلى الله عليه و سلم – و المؤمنين ، لا تنطوي عليه أقوالكم الزائفة ، و لا آراؤكم التالفة ، و التي سيلقيها التاريخ و يلقيكم معها في صندوق المخلفات ، آجلاً أم عاجلاً ، فلقد كذبتم و أضللتم كثيرا من الخلق ، في الدين ، و في التاريخ ، و في السياسة أيضا ، أنا لست مثلكم أو مثل أتباعكم ، أشرب كل ما يُملى عليّ من حلو و مالح ، و ألْتهم كل ما يُقدّم إليّ من غث و سمين ، فحكمي على الدول و الشخصيات ، التي فصلتني عنها في مسطرة المكان أميال ، و سبقتني إليها في بوصلة الزمان أجيال ، فلم أرها قط ، حكمي عليها حكمُ مترقّب متأنٍّ حذِر ، يحمل آلة التاريخ و الدين معاً ، و لا يقيس إلّا بهما معاً ، في حين أني أرى كثيراً من الناس يمسك بآلة التاريخ وحدها ، ليقرأها دون اعتبار لديانات الأمم ، و دون نظر لأقوال الأشخاص ،فيشرب من خليط الصدق و الكذب حتى يرتوي ، و لكن عندما نستمع مثلاً لإحدى خطابات الملك المؤسس ، و يبرز لنا من وقع أفكاره ، و طعم كلماته ، رسوخ عقيدة سليمة ، و غزارة قيم رصينة ، فنحسبه عندئذ على خير ، و الله حسيبه ، فيبعد بعد ذلك أن تكون هذه الشخصية أسطورة مزورة و مسرحية مبتكرة ، على النقيض من بعض الشخصيات المصنّعة و الأسماء المصقولة ، و التي خلّدها التاريخ زوراً و بهتانا ، و أطّرتها الكتب قسراً و عدوانا.
لن أتحدث في هذه المقالة عن شخصية الملك المؤسس في سيرتها و إنجازاتها و محطاتها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ، كما جرت العادة في كتب السير و التاريخ ، و لن أتحدث عن كفاحه المديد و جهاده العنيد ، في مواجهة كل التحديات الشاهقة ، بعد أن خاض أكثر من مئة معركة خلّفت في جسده أكثر من أربعين ندبة ، تشهد عليها راية التوحيد خفاقة فوق كل شبر من ثرى هذه الأرض المباركة ، و لن أتحدث عن الشخصية القوية الناعمة ، و الليّنة الحازمة ، إنما حديثي سيكون ببعض ما لمسته و قطفته من مقالاتها و خطاباتها الملهمة ، و التي يفوح منها أريج التوحيد و الإيمان ، و أثير الكتاب و السنّة ، كلماته التي تتحدث عن عقيدته و علمه و سِني تعلّمه ، و توجهاته التي تترجم حقيقة أفكاره و تخيلاته ، فعندما نستقي من إحدى خطاباته قائلاً : “و إني في موقفي هذا في بلاد الله الحرام ، أدعو المسلمين عامة ، للتفهم الحقيقي للدعوة المحمدية و التمسك بها ، و هو سبحانه وحده ، واحد في ربوبيته ، واحد في ألوهيته ، واحد في أسمائه و صفاته ، ليس كمثله شيء و هو السميع البصير ، فإذا كنا نريد اجتماع كلمتنا ، و توحيد شؤوننا ، و حفظ جامعتنا ، فليس لنا جامعة نجتمع عليها ، إلا جامعة الكتاب و السنّة” ، ندرك عند مقولته هذه ، أنه كان توّاقاً لترسيخ أسس التوحيد و السنّة في بلاد الحرمين ، فضلاً عن إدراكه لمعاني تلك الأسس الراسخة ، و إلمامه بقواعدها و أركانها ، في حين أن كثيراً من جحافل المنتسبين للإسلام في قرننا الحالي ، و المتلذذين بنقد هذه البلاد و تشويه أعلامها و حكامها ، مغيّبون تماماً عن تلك المعاني الأصيلة السامية ، و التي سبق إليها حكام تلك البلاد و أجيالها ، و “مؤسسها” قبل ذلك ، تلك الجحافل المنغمسة في بحر من الخرافات و الانحرافات و البدع ، تركب كل موجة تقصيها عن بر التوحيد و السنّة ، إلى دوّامة الجهل و الضلال.
لقد بحثت في شخصية الملك عبد العزيز من خلال استقرائي لسيرته و أخلاقه و تتبعي لأقواله و إشاراته ، فلمست في حديثه عدم التكلف و التصنع و التنطع ، لقد كان حديثه من القلب إلى القلب ، لا يعرف لغة التشفير و الترميز ، كلمات بسيطة سهلة ، و معانٍ واضحة جزلة ، كما يتبين ذلك من مقولته : “إذا أراد المسلمون و العرب قتال أعدائهم ، فإن أعداءهم يعدّون لهم بما ليس للعرب و المسلمين قِبَل لهم به من أدوات الحرب ، و لكن قوة واحدة فقط هي التي إذا أعدها المسلمون و العرب ، لا يمكن لأعداء أن يأتوا بمثلها ، ألا و هي الإيمان بالله ، و ثقتهم به ، و تمسكهم بتعاليمه” ، مقولة ترسّخ جل قواعد النصر عند الله ، و تجمع فيها معانٍ لكثير من الآيات الكريمة مثل : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” ، و كذلك : “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” ، و أيضا : “وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ¤ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ” ، و الكثير الكثير من الآيات البيّنات ، التي لا يتسع المقام لذكرها في قالب هذه المقالة الموجزة ، مقولة تمثل مدى تعلّق النظرية بالتطبيق ، إيمان في صميم القلب ، ثم ترجمة على أرض الواقع ، مكللة بالنصر المبين من عند الله ، أراد ترسيخ عقيدة التوحيد ، فوحّد الله له البلاد و العباد ، فكانت الفتوحات تلو الفتوحات ، جاءت ثمرة صدق مع الله ، صدق في الأقوال و الأفعال ، و ليس رفع شعارات زائفة ، و بسط كلمات رنانة ، لتسحر القلوب و الأبصار ، و تجرّها إلى أرض خاوية ، أو محيط أجوف ، كما يفعل الكثير من أشباه القادة قديماً و حديثا ، فلا نسمع منهم إلا الخيال و المحال ، و لا نرى منهم سوى السقوط و الدمار ، نعم ، مقولة وجب تأطيرها ، و إدراجها ضمن مناهج التربية الإسلامية و الإيمانية ، لأجيال يُخوّل عليها بناء الدولة و الأمة ، و الدفاع عن الحق و الدين ، و نصرة المستضعفين من أهل الأرض في شتى الأرجاء.
و كما هي العادة دائما ، فإن المقالات المفعمة بالأفكار الفياضة و المشاعر الجياشة ، مثل هذه المقالة ، لا تلبث أن تبدأ حتى تنتهي ، و لو أعطَينا هذه الشخصية حقها من الحديث و الإسهاب ، لاحتجنا إلى تأليف كتاب زاخر ، لا إلى مقالة موجزة ، و لكني سأذكر بعض أقوال الملك المؤسس في هذه الفقرة قبل أن أنهي ، و لكم أن تتلمّسوا مدى صدقه و شفافيته في الحديث ، فمن أقواله أثناء خطابه لبعض رؤوس القبائل أيام الفتوح و التوحيد ، و تمرد بعضهم عليه : “لا منة لأحد عليّ في امتلاك هذا الملك إلا الله وحده ، لم آت منكم أحداً غدراً أو خيانة ، أقدم لكم معروفي و أقدم لكم السلام والأمن ، فتعاهدوني ، فإن خنتم عهدكم أعانني الله عليكم” ، و دعا يوماً في الهزيع الآخر من الليل قائلا :”اللهم إذا كان هذا الملك خيراً لي و للمسلمين فأتمه لي ولأولادي ، و إن كان فيه شر لي و للمسلمين فانزعه مني ومن أولادي” ، نعم ، لم يطلب الملك و الرئاسة قدر طلبه للوحدة و التوحيد ، لكنه رأى نفسه قادراً عليها ، فسعى إليها ، و يتضح ذلك من مقاله ، فهذه استخارة صادقة ، يضع نفسه و أولاده حياداً في طلب الملك ، فإن كانت خيراً ، فبها و نعمت ، و إن كانت شراً ، فأبعدها الله و كفى ، نعم هو ذاك ، و كيف لا ، و هو القائل : “أنا ملك بمشيئة الله ، ثم بمشيئة العرب الذين اختاروني و بايعوني ، على أنها ألقاب وأسماء ، فما أنا إلا عبد العزيز ، قال العرب إنني ملك ، فرضيت قولهم و شكرت ثقتهم ، و في اليوم الذي لا يريدونني زعيماً لهم ، أعود إلى الصف ، و أحارب معهم بسيفي ، كأصغر واحد فيهم ، دون أن ينال نفسي شيء من الغضاضة ، أنا بينهم الآن لأقيم حكم القرآن والسنة” ، و أختم أقواله بهذه ، لتؤكد على صدق ما سبق اقتباسه : “و الله ثم والله ، إني لأفضّل أن أكون على رأس جبل ، آكل من عشب الأرض ، و أعبد الله وحده ، من أن أكون ملكاً على سائر الدنيا و من فيها”.
و أخيراً ، فرسالتي إلى كل من لا تعجبه مقالتي هذه ، و إلى كل من يتخبط بين وحي الحقيقة و براثن الضلال ، إلى كل من نخرت به أكاذيب المتنمّقين و المتفلسفين ، أنِ اذهب و التحق بصفوف المجاهدين من طلبة العلم ، و اعرف دينك جيداً ، فمن تفقّه في دينه ، فقد آتاه الله الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيرا ، فيستطيع تمييز الخبيث من الطيب ، و الصادق من الكاذب ، فلا تنطلي عليه أكاذيب المدّعين ، و لا أباطيل المزوّرين ، و بذلك يعرف أسلافه و ولاة أمره السابقين ، من الحكام المخلصين و العلماء الصادقين حق المعرفة ، تعلّم جيداً لكي تدرك أن في التاريخ قادة للإسلام نفخر بهم ، و نرفع راياتهم من بعدهم ، مثل هذا الملك المؤسس ، الذي أبى لهذه الصحراء القاحلة أن تستمر في وحشتها و قسوتها ، فيقلبها خضراء مزهرة بالتوحيد و السنّة ، بعد عصور ممتدة من الجهل و الخوف ، خلّفتها قوى الاستبداد و الاستعباد ، تحت مسمى الخلافة و الفتوح الإسلامية الواهمة ، شعارات كاذبة تُشيَّد أمام الناظرين و الناقدين ، لتخفي من ورائها طمع و احتلال ، و خرافة و احتيال ، شعارات تحاول نسف كل معنىً جميل ، و كل رمز أصيل ، مثل هذا القائد الإسلامي الحقيقي ، صاحب ثورة التوحيد ، توحيد الإله و توحيد البلاد ، و الذي نفخر به جميعاً كعرب و مسلمين ، سعوديين و غير سعوديين ، بدلاً من رفع أعلام كاذبة و أسماء فارغة ، طالما ذكرها التاريخ بالتفخيم و التطبيل دون وجه حق ، دول زائفة و شخصيات واهمة ، وجب فضح زيفها ، و تعرية وهمها ، فتعلّم أيها الرافض لتغيير معتقداتك التالفة ، و أفكارك البائدة ، و توجهاتك الخاطئة ، لتترجم ذلك لينَ قول و جميل فعل ، و من قبل ذلك صدق اعتقاد ، كما فعل من قبلك هذا الملك المؤسس ، و الذي نهل أسس التوحيد و السنّة و الأخلاق من منبعها النقي الطاهر ، الملك الموحّد لله و للبلاد ، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، رحمه الله.
بقلم الكاتب الأردني : معتصم برهم
السبت ٢٢ من محرم ١٤٤١ ه
الموافق ٢١ من أيلول ٢٠١٩ م